دور الأوقاف في صيانة وتنظيم المقابر في القاهرة عبر العصور
تُعد الأوقاف من أعرق المؤسسات الإسلامية التي ساهمت في بناء النسيج الحضاري والاجتماعي في مصر، وقد امتد دورها ليشمل جوانب متعددة من الحياة، من التعليم والصحة، إلى إدارة الفضاءات العامة، ومن بينها المقابر. ففي القاهرة، التي تزخر بالمقابر التاريخية التي تمتد من العصر الفاطمي إلى العصر العثماني، لعبت الأوقاف دورًا محوريًا في صيانة هذه المدافن، وضمان استمراريتها، وتنظيمها وفق المبادئ الشرعية، مما جعل من المقابر فضاءات دينية وثقافية، لا مجرد أماكن للدفن.
في العصور الوسطى، كان من الشائع أن يُوقف أحد الأثرياء أو السلاطين قطعة أرض أو جزءًا من عقاره كوقف لخدمة المقبرة أو المجمع الجنائزي. فلم يكن الوقف يُقتصر على بناء الضريح فقط، بل كان يشمل تخصيص عوائد أراضٍ أو محال تجارية لصيانة القبر، ودفع رواتب للحراس، وشراء المصابيح، وسقي الأشجار. فمثلاً، وقف السلطان قايتباي عوائد عدة أراضٍ لصيانة مجمعه الجنائزي في مقابر الصالحية، مما جعل من هذا المجمع مُعَمَّرًا لأكثر من خمسة قرون. وبالمثل، تُظهر وثائق دار الكتب أن مقابر كبار العلماء كانت تُدار من خلال أوقاف مخصصة، تُضمن استمرار الصلاة على الميت، وتنظيف القبر، وتقديم الدعم للزوار.
وقد كان هذا النموذج فعالاً للغاية، لأنه يُوفر مصدر دخل دائمًا دون الحاجة إلى تدخل حكومي مستمر. كما أنه كان يُعزز من الشعور بالمسؤولية المجتمعية، حيث يُنظر إلى صيانة المقابر كعمل خيري يُقرب إلى الله. لكن مع تغير الأنظمة الحاكمة، وصدور قانون إلغاء الامتيازات في منتصف القرن العشرين، تدهورت حالة كثير من الأوقاف، مما أدى إلى توقف عوائدها، وانهيار صيانة المقابر التي كانت تعتمد عليها.
اليوم، ومع التوسع العمراني المتسارع، وتحول المقابر من فضاءات روحية إلى مواقع مهددة بالتعديات، يبرز الحاجة إلى إعادة تفعيل دور الأوقاف، ولكن بآليات حديثة. ففي المدن الجديدة، مثل القاهرة الجديدة، تم تبني نموذج تخطيطي مركزي لإدارة المقابر، يُدار من خلال جهاز المدينة، ويتضمن قرعة علنية، وتشطيبات كاملة، وحراسة دائمة. وقد أصبحت مقابر القاهرة الجديدة نموذجًا يُحتذى به، حيث تُبنى وفق معايير عالية من الجودة، وتُحاط بأسوار عالية، وتُزود بأنظمة مراقبة إلكترونية، مما يضمن حماية المكان من التعدّي، ويُعيد للمقبرة مكانتها كفضاء آمن ومحترم. مقابر القاهرة الجديدة
كما أن الدولة، من خلال هيئة المجتمعات العمرانية، تُسهم في تنظيم هذا القطاع من خلال طرح مقابر للبيع بمحافظة القاهرة عبر قرعة علنية، تُشترط فيها شروط صارمة مثل عدم امتلاك المتقدم لمقبرة سابقة، وأن يكون من سكان المدينة، بهدف منع المضاربة وضمان التوزيع العادل. وتُبنى هذه المقابر بجودة عالية، وتُسلم كاملة التشطيب، مما يعكس تحوّلًا في مفهوم إدارة الفضاء الجنائزي من فوضوي إلى منظم. مقابر للبيع بمحافظة القاهرة
وفي هذا السياق، يمكن للقطاع الخاص أن يُعيد صياغة مفهوم الوقف من خلال نماذج استثمارية خيرية. فبدلاً من ترك المقابر للإهمال، يمكن لشركات متخصصة أن تُنشئ صناديق وقفية لصيانة المقابر، تُمول من عوائد الخدمات، مثل الصيانة الدورية، أو الإيجار الرمزي للخدمات المقدمة. وتُعد مقابر للبيع من هذه الشركات نموذجًا متطورًا، حيث تقدم خدمات صيانة مدى الحياة، وتنسيق حدائق، وحراسة على مدار الساعة، مع ضمان تطبيق الشروط الشرعية بدقة، مما يجعل من المقبرة فضاءً دائمًا يُحترم ويُصان. مقابر للبيع
في النهاية، يُظهر تاريخ الأوقاف في إدارة المقابر أن الحل لا يكمن فقط في التدخل الحكومي، بل في إشراك المجتمع، وتفعيل أدواته التقليدية بروح عصرية. فالمقابر ليست فقط أماكن للدفن، بل هي جزء من التراث، وواجب جماعي. وإعادة تفعيل دور الوقف، سواء بآلياته القديمة أو بابتكاراته الحديثة، هو السبيل لضمان أن تظل هذه الفضاءات مصانة، ومحترمة، وحية، حتى في أصعب الأزمنة.
